فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجملة: {قل فأتوا} جواب لكلامهم فلذلك فصلت على ما هو مستعمل في المحاورة سواء كانت حكاية المحاورة بصيغة حكاية القول أو كانت أمرًا بالقول كما تقدم عند قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30].
والضمير المستتر في {افتراه} عائد إلى النبي عليه الصلاة والسلام المذكور في قوله: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك} [هود: 12].
وضمير الغائب البارز المنصوب عائد إلى القرآن المفهوم من قوله: {بعض ما يوحى إليك} [هود: 12].
والاتيان بالشيء: جلبه، سواء كان بالاسترفاد من الغير أم بالاختراع من الجالب وهذا توسعة عليهم في التحدّي.
وتحدّاهم هنا بأن يأتوا بعشر سور خلاف ما تحدّاهم في غير هذا المكان بأن يأتوا بسورة مثله، كما في سورة البقرة وسورة يونس.
فقال ابن عبّاس وجمهور المفسرين: كان التحدّي أوّل الأمر بأن يأتوا بعشر سور مثل القرآن.
وهو ما وقع في سورة هود، ثمّ نسخ بأن يأتوا بسورة واحدة كما وقع في سورة البقرة وسورة يونس.
فتخطّى أصحاب هذا القول إلى أن قالوا إن سورة هود نزلت قبل سورة يونس، وهو الذي يعتمد عليه.
وقال المبرّد: تحدّاهم أولًا بسورة ثمّ تحدّاهم هنا بعشر سور لأنّهم قد وسع عليهم هنا بالاكتفاء بسور مفتريات فلمّا وسع عليهم في صفتها أكثَرَ عليهم عددها.
وما وقع من التحدّي بسورة اعتبر فيه مماثلتها لسور القرآن في كمال المعاني، وليس بالقويّ.
ومعنى: {مفتريات} أنها مفتريات المعاني كما تزعمون على القرآن أي بمثل قصص أهل الجاهلية وتكاذيبهم.
وهذا من إرخاء العنان والتسليم الجدلي، فالمماثلة في قوله: {مثله} هي المماثلة في بلاغة الكلام وفصاحته لا في سداد معانيه.
قال علماؤنا: وفي هذا دليل على أن إعجازه وفصاحته بقطع النظر عن علوّ معانيه وتصديق بعضه بعضًا.
وهو كذلك.
والدعاء: النداء لعمل.
وهو مستعمل في الطلب مجازًا ولو بدون نداء.
وحذف المتعلق لدلالة المقام، أي وادْعوا لذلك.
والأمر فيه للإباحة، أي إن شئتم حين تكونون قد عجزتم عن الإتيان بعشر سور من تلقاء أنفسكم فلكم أن تدعوا من تتوسّمون فيه المقدرة على ذلك ومَن تَرجون أن ينفحكم بتأييده من آلهتكم وبتيسير الناس ليعاونوكم كقوله: {وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين} [البقرة: 23].
و: {من دون الله} وصف ل: {من استطعتم}، ونكتة ذكر هذا الوصف التذكير بأنهم أنكروا أن يكون من عند الله، فلما عمّم لهم في الاستعانة بمن استطاعوا أكّد أنهم دون الله فإن عجزوا عن الإتيان بعشر سور مثله مع تمكنهم من الاستعانة بكلّ من عدا الله تبين أن هذا القرآن من عند الله.
ومعنى: {إن كنتم صادقين} أي في قولكم: {افتراه}، وجواب الشرط هو قوله: {فأتوا بعشر سور}.
ووجه الملازمة بين الشرط وجزائه أنه إذا كان الافتراء يأتي بهذا القرآن فما لكم لا تفترون أنتم مثله فتنهض حجتكم.
{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ}
تفريع على: {وادْعوا من استطعتم} [هود: 13] أي فإن لم يستجب لكم مَن تدعو لهم فأنتم أعجز منهم لأنكم ما تدعونهم إلاّ حين تشعرون بعجزكم دون معاون فلا جرم يكون عجز هؤلاء موقعًا في يأس الدّاعين من الإتيان بعشر سور.
والاستجابة: الإجابة، والسين والتاء فيه للتأكيد.
وهي مستعملة في المعاونة والمظاهرة على الأمر المستعان فيه، وهي مجاز مرسل لأنّ المعاونة تنشأ عن النّداء إلى الإعانة غالبًا فإذا انتدب المستعان به إلى الإعانة أجاب النداء بحضوره فسمّيت استجابة.
والعلم: الاعتقاد اليقين، أي فأيقنوا أن القرآن ما أنزل إلاّ بعلم الله، أي ملابسًا لعلم الله.
أي لأثر العلم، وهو جعله بهذا النظم للبشر لأن ذلك الجعل أثر لقدرة الله الجارية على وفق علمه.
وقد أفادت {أنما} الحصر، أي حصر أحوال القرآن في حالة إنزاله من عند الله.
و: {أن لا إله إلاّ هو} عطف على: {أنّما أنزل} لأنهم إذا عجزوا فقد ظهر أن من استنصروهم لا يستطيعون نصرهم.
ومن جملة من يستنصرونهم بطلب الإعانة على المعارضة بين الأصنام عن إعانة أتباعهم فدل ذلك على انتفاء الإلهية عنهم.
والفاء في: {فهل أنتم مسلمون} للتفريع على: {فاعلموا}.
والاستفهام مستعمل في الحثّ على الفعل وعدم تأخيره كقوله: {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91] أي عن شرب الخمر وفعل الميسر.
والمعنى: فهل تسلمون بعد تحققكم أنّ هذا القرآن من عند الله.
وجيء بالجملة الاسمية الدالة على دوام الفعل وثباته.
ولم يقل فهل تسلمون لأنّ حالة عدم الاستجابة تكسب اليقين بصحة الإسلام فتقتضي تمكنه من النفوس وذلك التمكن تدلّ عليه الجملة الاسمية. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}
وفي قول الحق سبحانه وتعالى هنا بيان لِلَوْنٍ آخر من مصادمة الكافرين لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم والإيمان به، فقالوا: إن محمدًا قد افترى القرآن.
والافتراء: هو الكذب المتعمَّد، ومعنى الكذب المتعمد أنه كلام يخالف واقعًا في الكون.
فإذا كان الواقع نَفْيًا وأنت قلت قضيةَ إثبات؛ تكون قد خالفت الواقع، كأن يُوجد في الكون شرٌّ ما ثم تقول أنت: لا يوجد شرٌّ في هذا المكان، وهكذا يكون الواقع إيجابًا والكلام نفْيًا.
وكذلك أن يكون في الواقع نَفْيٌّ وفي الكلام إيجابٌ، فهذا أيضًا كذبٌ؛ لأن الصدق هو أن تتوافق القضية الكلامية مع الواقع الكوني، فإن اختلفتْ مع الواقع الكوني صار الكلام كاذبًا.
والكذب نوعان: نوع متعمد، ونوع غير متعمد. والكذب خرق واقع واختلاق غير موجود. ويقال خرقت الشيء أي: أنك أتيت لواقع وبدَّلت فيه.
والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100].
ويقول أيضًا الحق سبحانه: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17].
أي: تأتون بشيء من عدم، وهو من عندكم فقط.
ويقول الله سبحانه تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116]. وحين اتهموا محمدًا صلى الله عليه وسلم بهتانًا بأنه افترى القرآن جاء الرد من القرآن الكريم بمنتهى البساطة، فأنتم معشر العرب أهل فصاحة وبلاغة، وقد جاء القرآن الكريم من جنس ونوع نُبوغكم، وما دمتم قد قُلْتم: إن محمدًا قد افترى القرآن، وأن آيات القرآن ليست من عند الله، فلماذا لا تفترون مثله؟
وما دام الافتراء أمرًا سهلًا بالنسبة لكم، فلماذا لا تأتون بمثل القرآن ولو بعشْر سور منه؟ وأنتم قد عِشْتم مع محمد منذ صِغَره، ولم يكن له شعْر، ولا نثر، ولا خطابة، ولا علاقة له برياضاتكم اللغوية، ولم يزاول الشعر أو الخطابة، ولم يشترك في أسواق البلاغة والشعر التي كانت تُعقد في الجاهلية مثل سوق عكاظ.
وإذا كان مَنْ لا رياضة له على الكلام ولا على البلاغة، قد جاء بهذا القرآن؛ فَلْيكُنْ لديكم وأنتم أهل قُدْرة ودُرْبة ورياضة على البلاغة أن تأتوا ببعض من مثله، وإن كان قد افترى القرآن فلماذا لا تفترون مثله؟
وأنتم تعرفون المعارضات التي تُقام في أسواق البلاغة عندكم، حين يقول شاعر قصيدة، فيدخل معه شاعر أخر في مباراة ليلقي قصيدة أفضل من قصيدة الشاعر الأول، ثم تُعقد لجان تحكيم تُبَيِّن مظاهر الحُسْن ومظاهر السوء في أي قصيدة.
ولو كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم قد افترى القرآن كما تقولون فأين أنتم؟ ألم تعرفوه منذ طفولته؟ ولذلك يأمر الحق سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {قُل لَّوْ شَاءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].
فهَل أثرَ عن محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال شعرًا أو ألقى خطبة أو تَبارَى في عكاظَ أو المربد أو ذي المجاز أو المَجَنَّة، وتلك هي أسواق البلاغة ومهرجاناتها في تلك الأيام؟
هو لم يذهب إلى تلك الأماكن منافسًا أو قائلًا.
إذن: أفليسَ الذين تنافسوا هناك أقدر منه على الافتراء؟ ألم يكن امرؤ القيس شاعرًا فَحْلًا؟ لقد كان، وكان له نظير يعارضه.
وكذلك كان عمرو بن كلثوم، والحارث بن حِلَّزة اليشْكُري، كما جاء في عصور تالية آخرون مثل: جرير والفرزدق. إذن: فأنتم تعرفون مَنْ يقولون الشعر ومَنْ يعارضونهم من أمثالهم من الشعراء. إذن: فهاتوا مَنْ يفتري مثل سور القرآن، فإنْ لم تفتروا، فمعنى ذلك أن القرآن ليس افتراء. ولذلك يقول الحق سبحانه هنا: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13].
فهل كانوا قادرين على قبول التحدي، بأنْ يأتُوا بعشر سُوَر من مثل القرآن الكريم في البيان الآسر وقوة الفصاحة وأسرار المعاني؟
لقد تحدَّاهم بأن يأتوا أولًا بمثل القرآن، فلم يستطيعوا، ثم تحدَّاهم بأن يأتوا بعشر سور، فلم يستطيعوا، وتحدَّاهم بأن يأتوا بسورة، ثم تحدَّى أن يأتوا ولو بحديث مثله، فلم يستطيعوا.
وهنا جاء الحق سبحانه بالمرحلة الثانية من التحدي، وهو أنْ يأتوا بِعَشْر سُور، ولم يكتف الحق سبحانه بذلك، بل طالبهم أن يَدْعُوا مَجْمَعًا من البُلَغَاء، فقال سبحانه: {وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله} [هود: 13].
أي: هاتوا كلَّ شركائكم وكل البُلغاء، من دون الله تعالى.
الحق سبحانه وتعالى هنا يقطع عليهم فرصة الادّعاء عليه سبحانه حتى لا يقولوا: سوف ندعو الله؛ ولذلك طالبهم الحق سبحانه أن يُجنِّبوه: {وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13].
أي: إن كنتم صادقين في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد افترى القرآن، وبما أنكم أهل ريادة في الفصاحة فَلْتفتروا عَشْر سُوَرٍ من مثل القرآن، أنتم ومَنْ تستطيعون دعوتهم من الشركاء.
لذلك كان الرد الحكيم من الله في قول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا}
والخطاب هنا موجَّه إلى الذين ادَّعوا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد افترى القرآن، أو أن الخطاب مُوجَّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال في الآية السابقة: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} [هود: 13- 14].
أي: إن لم يردُّوا على التحدي، فليعلموا وليتيقَّنوا أن هذا القرآن هو من عند الله تعالى، بشهادة الخصوم منهم.
ولماذا عدَّل الحق سبحانه هنا الخطاب، وقال: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} [هود: 14].
أي: من تدعونهم، ثم قال سبحانه: {فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ الله} [هود: 14].
وقد قال الحق سبحانه ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مُطالَبٌ بالبلاغ وما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين مطلوب منه أن يُبلغوه، وإنْ لم يستجيبوا للرسول صلى الله عليه وسلم أو للمؤمنين، ولم يأتِ أحد مع مَنْ يتهم القرآن بأنه مُفترًى مِن محمدٍ.
وقد يكون هؤلاء الموهوبون خائفين من التحدي؛ لأنهم عرفوا أن القرآن حق، وإن جاءوا ليفتروا مثله فلن يستطيعوا، ولذلك فاعلموا يا مَنْ لا تؤمنون بالقرآن أن القرآن: {أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ الله} [هود: 14].
إذن: فالخطاب يكون مرَّة موجَّهًا للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته.
ولذلك عَدَلَ الحق سبحانه عن ضمير الإفراد إلى ضمير الجمع في قوله تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ الله} [هود: 14].
أي: ازدادوا علمًا أيها المؤمنون بأن القرآن إنما نزل من عند الله.
والعِلْم كما نعلم مراحل ثلاث: علم يقين، وعين يقين، وحق يقين.
أو أن الخطاب مُوجَّه للكافرين الذين طلب القرآن منهم أن يَدْعُوا من يستطيعون دعاءه ليعاونهم في معارضة القرآن: {فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ الله} [هود: 14].
وأعلى مراتب العِلْم عند الحق سبحانه الذي يعلم كل العلم أزلًا، وهو غير علمنا نحن، الذَي يتغير حسب ما يتيح لنا الله سبحانه أن نعلم، فأنت قد تكون عالمًا بشيءٍ وتجهل أشياء، أوعلمتَ شيئًا وغابتْ عنك أشياء.
ولذلك تجد الأطباء، وأصحاب الصناعات الدقيقة وغيرهم من الباحثين والعلماء يستدرك بعضهم البعض، فحين يذهب مريض لطبيب مثلًا ويصف له دواءً لا يستجيب له، فيذهب المريض إلى طبيب آخر، فيستدرك على الطبيب الأول، فيصف دواء، وقد لا يستجيب له المريض مرة ثانية، وهنا يجتمع الأطباء على هيئة مجمع طبي يُقرّر ما يصلح أو لا يصلح للمريض.
ويستدرك كلٌّ منهم على الآخر إلى أن يصلوا إلى قرار، والذي يستدرك هو الأعلم؛ لأن الطبيب الأول كتب الدواء الذي أرهق المريض أو لم يَستجبْ له، وهو قد حكم بما عنده من عِلْم، كذلك بقية الباحثين والعلماء.
وما دام فوق كل ذي علمٍ عليمٌ؛ فالطبيب الثاني يستدرك على الطبيب الأول.. وهكذا.
ولكن أيوجد أحدٌ يستدرك على الله سبحانه وتعالى؟ لا يوجد.
وما دام القرآن الكريم قد جاء بعلم الله تعالى، فلا علم لبشر يمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن.
{فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ الله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} [هود: 14].
وجاء الحق سبحانه هنا بأنه لا إله إلا هو؛ حتى لا يدَّعي أحدٌ أن هناك إلهًا آخر غير الله.
وذكر الله سبحانه هنا أن هذا القرآن قد نزل في دائرة: {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} [هود: 14].
وما دام الحق سبحانه قد حكم بذلك فلنثق بهذا الحكم.
مثال ذلك: هو حكم الحق سبحانه على أبي لهب وعلى امرأته بأنهما سيدخلان النار فهل كان من الممكن أن يعلن أبو لهب إسلامه، ولو نفاقًا؟ طبعًا لا؛ لأن الذي خلقَه علم كيف يتصرف أبو لهب.
لذلك نجد بعد سورة المسد التي قررت دخول أبي لهب النار، قول الحق سبحانه: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1].
أي: أن الحق سبحانه ما دام قد أصدر حكمه بأن أبا لهب سيدخل وزوجه النار، فلن يقدر أحد على أن يُغيِّر من حكمه سبحانه، فلا إله إلا هو.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [هود: 14].
وهذا استفهام، أي: طلب للفهم، ولكن ليس كل استفهام طلبًا للفهم، فهذا الاستفهام هنا صادر عن إرادة حقيقية قادرة على فرض الإسلام على من يستفهم منهم.
ولكنه سبحانه شاء أن يأتي هذا الاستفهام على لسان رسوله ليقابله جواب، ولو لم يكن السائل واثقًا أنه لا يوجد إلا الإسلام لما قالها، ولو لم يكن السائل واثقًا أنه لا جواب إلا أن يُسْلِم السامع، ما جعل جواب السامع حجة على السامع.
وقائل هذا الكلام هو الخالق سبحانه، ولله المثل الأعلى، وهو سبحانه مُنزَّه عن كل مثل، تجد إنسانًا يحكي لك أمرًا بتفاصيله، ثم يسألك: هل أنا صادق فيما قلت لك؟.. وهو يأتي بهذا الاستفهام؛ لأنه واثق من أنك ستقول له: نعم، أنت صادق.
وإذا نظرنا في آية تحريم الخمر والميسر على سبيل المثال نجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91].
وكأن هذا الاستفهام يحمل صيغة الأمر بأن: انتهوا من الخمر والميسر، واخجلوا مما تفعلون.
إذن: فقول الحق سبحانه في آخر الآية الكريمة: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [هود: 14] يعني: أسلموا، واتركوا اللجاجة بأن القرآن قد جاء من عند محمد، أو أنه افتراه، بل هو من عند الله سبحانه الذي لا إله إلا هو. اهـ.